سورة البقرة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} المرض عبارة عما يعرِضُ للبدن فيُخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخللَ في أفاعيله، ويؤدّي إلى الموت، استُعير ههنا لما في قلوبهم من الجهل وسوءِ العقيدة، وعداوةِ النبي صلى الله عليه وسلم وغيرِ ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني، والتنكيرُ للدلالة على كونه نوعاً مُبهماً غيرَ ما يتعارفه الناس من الأمراض، والجملةُ مقرِّرة لما يفيده قوله تعالى: {مَّا هُم بِمُؤْمِنِينَ} من استمرار عدمِ إيمانهم، أو تعليلٌ له كأنه قيل: ما لهم لا يؤمنون فقيل: في قلوبهم مرضٌ يمنعهم {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} بأن طُبع على قلوبهم، لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكيرُ والإنذار، والجملةُ معطوفة على ما قبلها، والفاءُ للدلالة على ترتّب مضمونِها عليه، وبه اتضح كونُهم من الكفرة المختومِ على قلوبهم مع زيادة بيانِ السبب، وقيل: زادهم كفراً بزيادة التكاليف الشرعية، لأنهم كانوا كلما ازداد التكاليفُ بنزول الوحي يزدادون كفراً، ويجوز أن يكون المرض مستعاراً لما تداخلَ قلوبَهم من الضعف والجُبن والخَوَر عند مشاهدتهم لعزة المسلمين، فزيادتُه تعالى إياهم مرضاً ما فعل بهم من إلقاء الرَّوْع وقذف الرعب في قلوبهم عند إعزازِ الدين بإمداد النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة، وتأييدِه بفنون النصر والتمكين، فقوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} إلخ حينئذ استئنافٌ تعليلي لقوله تعالى: {يخادعون الله} الخ، كأنه قيل: ما لهم يخادعون ويداهنون ولم لا يجاهرون بما في قلوبهم من الكفر؟ فقيل: في قلوبهم ضَعفٌ مضاعَف، هذه حالُهم في الدنيا، {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم يقال: ألمٌ وهو أليم، كوجعٍ وهو وجيع وُصف به العذابُ للمبالغة كما في قوله:
تحيةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ ***
على طريقة جَدَّ جِدُّه فإن الألم والوجعَ حقيقةٌ للمؤلم والمضروب، كما أن الجِدّ للجادّ، وقيل: هو بمعنى المؤلم كالسميع بمعنى المُسمع وليس ذلك بثبْتٍ كما سيجيء في قوله تعالى: {بَدِيعُ السموات والارض} {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} الباء للسببية أو ما مصدرية داخلة في الحقيقة على يكذبون، وكلمة كانوا مُقحَمةٌ للمقابلة لإفادة دوامِ كذِبهم وتجدُّدِه أي بسبب كذبهم، أو بمقابلة كذبهم المتجددِ المستمرِّ الذي هو قولهم: {بالله وباليوم الأخر وَمَا} وهم غير مؤمنين، فإنه إخبارٌ بإحداثهم الإيمانَ فيما مضى لا إنشاءٌ للإيمان. ولو سلم فهو متضمن للإخبار بصدوره عنهم وليس كذلك لعدم التصديق القلبي بمعنى الإذعان والقبولِ قطعاً، ويجوز أن يكون محمولاً على الظاهر بناءً على رأي من يجوِّز أن يكون لكان الناقصةِ مصدر، كما صُرِّح به في قول الشاعر:
ببذلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى *** وكونُك إياه عليك يسيرُ
أي لهم عذاب أليم بسبب كونهم يكذِبون على الاستمرار، وترتيبُ العذاب عليه من بين سائر موجباته القويةِ.
إما لأن المرادَ بيانُ العذاب الخاصّ بالمنافقين بناءً على ظهور شِركتِهم للمجاهرين فيما ذكر من العذاب العظيم حسبَ اشتراكهم فيما يوجبه من الإصرار على الكفر كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَمِنَ الناس} الخ.
وإما للإيذان بأن لهم بمقابلة سائرِ جناياتِهم العظيمةِ من العذاب ما لا يوصف.
وإما للرمز إلى كمال سماجةِ الكذب نظراً إلى ظاهر العبارةِ المخيّلةِ لانفراده بالسببية، مع إحاطة علمِ السامعِ بأن لحوقَ العذاب بهم من جهات شتى، وأن الاقتصارَ عليه للإشعار بنهاية قُبحه والتنفير عنه.
عن الصديق رضي الله عنه ويروى مرفوعاً أيضاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والكذبَ فإنه مجانبٌ للإيمان» وما روي أن إبراهيمَ عليه السلام كذَبَ ثلاثَ كَذَباتٍ فالمرادُ به التعريضُ، وإنما سمِّي به لشَبَهه به صورةً، وقيل: {ما} موصولة والعائدُ محذوف أي بالذي يكذبون والمفعول محذوف، وهو إما النبي صلى الله عليه وسلم، أو القرآنِ و{ما} مصدرية، أي بسبب تكذيبهم إياه عليه السلام، أو القرآن أو موصولة أي بالذي يكذبونه على أن العائد محذوف، ويجوز أن يكون صيغةُ التفعيل للمبالغة كما في بيَّن في بان وقلَّص في قلَص، أو للتكثير كما في موَّتت البهائمُ وبرَّكت الإبل، وأن يكون من قولهم: كذب الوحش إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظرَ ما وراءه فإن المنافق متوقِّفٌ في أمره متردِّد في رأيه ولذلك قيل له: مُذَبْذب.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض} شروع في تعديد بعضٍ من قبائحهم المتفرعةِ على ما حُكي عنهم من الكفر والنفاق، وإذا ظرفُ زمنٍ مستقبلٍ، ويلزمها معنى الشرط غالباً، ولا تدخل إلا في الأمر المحقق أو المرجح وقوعُه، واللامُ متعلّقة بقيل ومعناها الإنهاءُ والتبليغ، والقائمُ مقامَ فاعلِه جملة {لا تفسدوا} على أن المراد بها اللفظ، وقيل هو مُضمرٌ يفسِّرُه المذكورُ، والفسادُ خروجُ الشيء عن الحالة اللائقة به والصلاحُ مقابلُه، والفساد في الأرض هَيْجُ الحروب والفتنِ المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد واختلالِ أمر المعاش والمعاد، والمراد بما نهُوا عنه ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائِهم عليهم، وغيرِ ذلك من فنون الشرور، كما يقال للرجل لا تقتُلْ نفسَك بيدك، ولا تلقِ نفسك في النار إذا أقدم على ما تلك عاقبته وهو إما معطوف على {يقول}، فإن جُعلت كلمة {مَنْ} موصولةً فلا محل له من الإعراب، ولا بأس بتخلل البيان أو الاستئنافِ وما يتعلق بهما بين أجزاء الصلةِ فإن ذلك ليس توسيطاً بالأجنبيّ، وإن جُعلت موصوفةً فمحلُه الرفع، والمعنى ومن الناس من إذا نهوا من جهة المؤمنين عما هم عليه من الإفساد في الأرض {قَالُواْ} إرادةٌ للناهين أن ذلك غيرُ صادر عنهم مع أن مقصودهم الأصليَّ إنكارُ كونِ ذلك إفساداً وادعاءُ كونِه إصلاحاً محضاً كما سيأتي توضيحه: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي مقصورون على الإصلاح المحض، بحيث لا يتعلق به شائبةُ الإفساد والفساد، مشيرين بكلمة {إنما} إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يُرتاب فيه.
وإما كلامٌ مستأنَفٌ سيق لتعديد شنائعِهم. وأما عطفهُ على يكذبون بمعنى ولهم عذاب أليم بكذبهم وبقولهم حين نهوا عن الإفساد إنما نحن مصلحون كما قيل، فيأباه أن هذا النحْوَ من التعليل حقُه أن يكون بأوصافٍ ظاهرةِ العِلّية مُسلَّمةِ الثبوت للموصوف غنيةٍ عن البيان لشهرة الاتصافِ بها عند السامع أو لسبق ذكرِه صريحاً كما في قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} فإن مضمونه عبارةٌ عما حُكي عنهم من قولهم: {بالله وباليوم الأخر وَمَا} أو لذكر ما يستلزمه استلزاماً ظاهراً كما في قوله عز وجل: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} فإن ما ذكر من الضلال عن سبيل الله مما يوجب حتماً نسيان جانب الآخرة التي من جملتها يوم الحساب وما لم يكن كذلك فحقه أن يخبر بعليته قصداً كما في قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} الآية، وقوله: {ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق} الآية، إلى غير ذلك، ولا ريب في أن هذه الشرطيةَ وما بعدها من الشرطيتين المعطوفتين عليها ليس مضمونُ شيء منها معلومَ الانتساب إليهم عند السامعين بوجه من الوجوه المذكورة، حتى تستحقَ الانتظامَ في سلك التعليل المذكور، فإذن حقُها أن تكونَ مَسوقةً على سنن تعديدِ قبائحِهم على أحد الوجهين، مفيدةً لاتصافهم بكل واحد من تلك الأوصاف قصداً واستقلالاً كيف لا وقوله عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} ينادي بذلك نداءً جلياً، فإنه ردٌ من جهته تعالى لدعواهم المحكية أبلغَ رد، وأدلَّه على سَخَط عظيم حيث سُلك فيه مسلك الاستئنافِ المؤدي إلى زيادة تمكّنِ الحكم في ذهن السامع، وصدرت الجملة بحرفي التأكيد {ألا} المنبّهة على تحقق ما بعدها، فإن الهمزة الإنكارية الداخلةَ على النفي تفيد تحقيق الإثبات قطعاً كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} ولذلك لا يكاد يقع ما بعدها من الجملة إلا مصدرةً بما يتلقى به القسمُ، وأختها التي هي {أمَا} من طلائع القسم.
وقيل: هما حرفان بسيطان موضوعان للتنبيه والاستفتاح و*إن* المقرِّرة للنسبة، وعُرفُ الخبر ووسَطُ ضمير الفصل لردِّ ما في قصر أنفسهم على الإصلاح من التعريض بالمؤمنين. ثم استُدرك بقوله تعالى: {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة، لكن لا حسَّ لهم حتى يُدركوه، وهكذا الكلامُ في الشرطيتين الآتيتين وما بعدهما من ردِّ مضمونهما، ولولا أن المراد تفصيلُ جناياتهم وتعديدُ خبائثهم وهَناتِهم ثم إظهارُ فسادِها وإبانة بُطلانها لما فُتح هذا البابُ والله أعلم بالصواب.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} من قِبَل المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثرَ نهيِهم عن المنكر إتماماً للنُصح وإكمالاً للإرشاد: {ءامَنُواْ} حُذف المؤمَنُ به لظهوره أو أريدَ افعلوا الإيمان: {كَمَا ءامَنَ الناس} الكاف في محل النصب على أنه نعتٌ لمصدر مؤكدٍ محذوف أي آمنوا إيماناً مماثلاً لإيمانهم فما مصدرية أو كافة، كما في ربما، فإنها تكف الحرف عن العمل، وتصحح دخولَها على الجملة، وتكون للتشبيه بين مضموني الجملتين، أي حققوا إيمانَكم كما تحقق إيمانُهم، واللام للجنس، والمراد بالناس الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، فإن اسمَ الجنس كما يُستعمل في مسماه يستعمل فيما يكون جامعاً للمعاني الخاصة به المقصودةِ منه، ولذلك يُسلب عما ليس كذلك، فيقال هو ليس بإنسان، وقد جمعهما من قال:
إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان ***
أو للعهد، والمرادُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ومن معه، أو مَنْ آمن مِنْ أهل جِلْدتهم كابن سلام وأضرابِه، والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص، متمحّضاً عن شوائب النفاق، مماثلاً لإيمانهم {قَالُواْ} مقابِلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر، واصفين للمراجيح الرِّزانِ بضد أوصافِهم الحسانِ: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} مشيرين باللام إلى من أشير إليهم في الناس من الكاملين، أو المعهودين، أو إلى الجنس بأسره، وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد، والسَّفهُ خِفةٌ وسخافةُ رأيٍ يُورِثهما قصورُ العقل، ويقابله الحِلْم والأناة، وإنما نسبوهم إليه مع أنهم في الغاية القاصية من الرشد والرزانةِ والوقار، لكمال انهماكِ أنفسِهم في السفاهة، وتماديهم في الغَواية، وكونِهم ممن زُين له سوءُ عمله فرآه حسناً، فمن حسِب الضلالَ هدىً يسمِّي الهدى لا محالة ضلالاً، أو لتحقير شأنهم، فإن كثيراً من المؤمنين كانوا فقراءَ، ومنهم مَوالٍ كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المرادِ بالناس عبدَ الله بن سلام وأمثالَه، وأياً ما كان فالذي يقتضيه جزالةُ التنزيل ويستدعي فخامةُ شأنِه الجليل أن يكون صدورُ هذا القول عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جواباً عن نصيحتهم، وحيث كانوا فحواه تسفيهَ أولئك المشاهيرِ الأعلام، والقدحَ في إيمانهم لزم كونُهم مجاهرين لا منافقين. وذلك مما لا يكاد يساعده السِباق والسِياق، وعن هذا قالوا ينبغي أن يكون ذلك فيما بينهم لا على وجه المؤمنين.
قال الإمام الواحدي: إنهم كانوا يُظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبيّه عليه السلام والمؤمنين بذلك عنهم، وأنت خبير بأن إبرازَ ما صدر عن أحد المتحاورَيْن في الخلاء في معرِض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهدَ به في الكلام فضلاً عما هو في منصِب الإعجاز، فالحقُ الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر عنهم بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونَهم مجاهرين، فإنه ضربٌ من الكفر أنيقٌ، وفنّ في النفاق عريق، مصنوعٌ على شاكلة قولِهم: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} فكما أنه كلامٌ ذو وجهين مثلَهم محتملٌ للشر، بأن يُحمل على معنى اسمعْ منا غيرَ مُسمعٍ كلاماً ترضاه ونحوِه، وللخير بأن يُحمل على معنى اسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ مكروهاً، كانوا يخاطبون به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً به، مظهرين إرادةَ المعنى الأخير، وهم مُضمرون في أنفسهم المعنى الأولَ، مطمئنون به، ولذلك نُهوا عنه، كذلك هذا الكلامُ محتملٌ للشر كما ذكر في تفسيره، وللخير بأن يُحملَ على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكارِ ما اتُّهموا به من النفاق، على معنى أنؤمن كما آمن السفهاءُ والمجانينُ الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا، ولا نؤمنُ كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، قد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم مُرائين لإرادة المعنى الأخير، وهم معوّلون على الأول، فرُدّ عليهم ذلك بقوله عز قائلاً: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} أبلغَ ردَ، وجُهِّلوا أشنعَ تجهيل حيث صُدِّرت الجملةُ بحرفي التأكيد حسبما أشير إليه فيما سلف، وجعلت السفاهةُ مقصورةً عليهم وبالغةً إلى حيث لا يدرون أنهم سفهاء، وعن هذا اتضح لك سرُ ما مر في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فإن حمله على المعنى الأخير كما هو رأيُ الجمهور منافٍ لحالهم ضرورةَ أن مشافهتَهم للناصحين بادعاء كونِ ما نُهوا عنه من الإفساد إصلاحاً كما مر إظهارٌ منهم للشقاق، وبروزٌ بأشخاصهم من نَفَق النفاق.
والاعتذارُ بأن المرادَ بما نُهوا عنه مداراتُهم للمشركين كما ذكر في بعض التفاسير، وبالإصلاح الذي يدْعونه إصلاحَ ما بينهم وبين المؤمنين، وأن معنى قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} أنهم في تلك المعاملة مفسدون لمصالح المؤمنين، لإشعارها بإعطاء الدنِيّة، وإنبائِها عن ضعفهم الملجىءِ إلى توسيط مَنْ يتصدى لإصلاح ذاتِ البين، فضلاً عن كونهم مصلحين مما لا سبيل إليه قطعاً، فإن قوله تعالى: {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} ناطقٌ بفساده كيف لا وهو يقتضي أن يكون المنافقون في تلك الدعوى صادقين قاصدين للإصلاح، ويأتيهم الإفسادُ من حيث لا يشعرون، ولا ريب في أنهم فيهم كاذبون لا يعاشرونهم إلا مضارّةً للدين، وخيانةً للمؤمنين، فإذن طريقُ حلِّ الأشكال ليس إلا ما أشير إليه، فإن قولَهم إنما نحن مصلحون محتملٌ للحَمْلِ على الكذب، وإنكارِ صدورِ الإفساد المنسوب إليهم عنهم، على معنى إنما نحن مصلحون لا يصدُر عنا ما تنهوننا عنه من الإفساد وقد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم وإرادةً لإرادة هذا المعنى وهم معرِّجون على المعنى الإول، فرُد عليهم بقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} الآية، والله سبحانه أعلم بما أودعه في تضاعيف كتابهِ المكنونِ من السر المخزون، نسأله العصمةَ والتوفيق، والهداية إلى سَواءِ الطريق.
وتفصيلُ هذه الآية الكريمةِ بـ {لا يعلمون} لما أنه أكثرُ طِباقاً لذكر السفه الذي هو فنٌّ من فنون الجهل، ولأن الوقوفَ على أن المؤمنين ثابتون على الحق وهم على الباطل مَنوطٌ بالتمييز بين الحق والباطل، وذلك مما لا يتسنى إلا بالنظر والاستدلال، وأما النفاقُ وما فيه من الفتنةِ والإفسادِ وما يترتب عليه من كون مَنْ يتصفُ به مفسِداً فأمرٌ بديهيٌّ يقف عليه من له شعور، ولذلك فُصلت الآية الكريمةُ السابقة بلا يشعرون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8